آخر الأخبار

سؤال التنويرين اليمنيين الذي يُراد له أن ينطفئ!!

الإثنين, 10 يوليو, 2023

انشغلت في فترة سابقة بتتبع القليل من إسهامات رواد التنوير في اليمن في محاولة لإمساك القليل من ضوء قناديلهم التي يُراد لها أن تنطفئ بفعل عملية تجريف الذاكرة الوطنية والتاريخية بأدوات قوى الحرب ومشاريعها الصغيرة التي تتغذى من تفكك المشروع الوطني الكبير لليمنيين، وإرثهم الحضاري بكل مكوناته.
 
 
بدأت تلك الكتابات بمقاربة السؤال الأصعب عند طلائع النخبويين حين ظنوا، مطلع عشرينيات القرن الماضي، أن باستطاعة الدولة التي استقلت عن الحكم العثماني غداة الحرب العالمية الأولى (1918)، وفرضت سيطرتها على اليمنيين (الأعلى والأوسط)، الذهاب بعيداً نحو بناء دولة وطنية قوية، تمضي باتجاه العصرنة، بإضافتها إلى الإرث القليل للحقبة العثمانية، المزيد من مشاريع البنية التحتية، وتحديث المجال العام مثل عصرنة التعليم، وتطوير ورش الصنائع، ومدارسها القليلة التي تركها العثمانيون.
 
 
لكن بعد عقد ونصف من قيام (المملكة المتوكلية)، صحى اليمنيون من وهمهم الكبير، فالإمام يحيي حميد الدين أحال مشروع الدولة إلى إقطاعية خاصة به وبأبنائه، وبسبب عقليته التقليدية المحافظة، وتشدده الديني وشُحُّه الشديد دمّر كل شيء له علاقة ببناء دولة مواطنة وخدمات عصرية، مكرساً النظرة التبجيلية للحاكم الفرد وقدسيته وعصمته، في مجتمع ينخره التخلف والتعصب الديني.
 
وفي طريقه لذلك تخلص من كل حلفائه الأقوياء حتى يتمكن من السلطة والتشبث بها باسم الوطنية والاستقلال "لكنه من الناحية العملية كان قد أفرغ الوطنية من محتواها الحضاري التقدمي، وحوّلها إلى ذريعة لتكريس التخلف والعزلة، وتجميد حياة المواطنين في نطاق الجهل والفقر والمرض، دون أن يسمح لرياح التغيير أن تطرأ عليها "كما يذهب الدكتور أحمد قائد الصايدي في كتابه حركة المعارضة اليمنية في عهد الإمام يحيي حميد الدين.
 
 
القليلون من مثقفي عاصمة الحكم، وبعض المدن اليمنية الأخرى، الذين كانوا يقرأون حالة النكوص هذه، عملوا كل ما يستطيعون، ليصل صوتهم الضعيف إلى المجتمع المغلق. وفي سبيل ذلك قدموا التضحيات الكبيرة، التي بدأها الحاكم بالتسفيه ثم المطاردة والاعتقال، وانتهت على حبال المشانق، غير أن فعل مثل هذا كان يفتح النافذة الأهم لدخول الضوء القليل لفعل التغيير.
 
 
في تلك المقاربة ركّزت بدرجة رئيسية على صوت (الانتلجنسيا) الناهض والذي اتخذ من عام الكوارث الكبير منطلقاً لمساءلة سلطة الإمام يحيى، وهذا العام (1934) هو عام دخول القوات السعودية إلى عاصمة إقليم تهامة (الحديدة) والمدن المحيطة بها، والذي ترتب عليه "اتفاقية الطائف التي تنازل فيها الإمام عن المخلاف السليماني ونجران مقابل خروج القوات السعودية من تهامة".
 
وهو أيضاً العام الذي وقّع فيه الإمام يحيي اتفاقية صداقة مع الإنجليز- معترفاً بسيطرتهم على عدن والمحميات مقابل اعترافهم به كحاكم لليمن- بدأ هذا الصوت جريئاً يعبّر عن رفضه لطريقة إدارة الإمام للبلاد بعقلية الفقيه المتزمت والمتعصب؛ وخرج هذا الصوت، من ذات البنية الثقافية المحافظة التي كرَّسها نظام الحكم، وأدار معاركه (الفكرية ) بنفس الأدوات التي يشتغل عليها، والتي تمتلك في ذات الوقت أسلوبها البسيط في النفاذ إلى عقول الكثير من المهجوسين بالسؤال الكبير من نحن وماذا نريد؟!.
 
وعبّرت عن تجليات هذا الصوت طلائع التنويريين العصاميين الذين لم يأتوا من حواضن سياسية منظمة، أو مدارس فكرية حديثة، فقط بإمكانياتهم المعرفية البسيطة، خطوا أولى الخطوات في الطريق الشاق والطويل لمعارضة السلطة الغاشمة، وتعرية أدواتها المستخدمة في الاستبداد الديني، ومع ذلك حمل خطابهم المبكِّر "دعوة فكرية سياسية وعملية لتحطيم تابوهات القداسة التي صنعتها الإمامة حول نفسها، وكشفت بوضوح حقائق ووقائع الحالة الإمامية الميؤوس منها، وحالة نظام فقد أي صلة بالحياة والعصر "كما يذهب إلى ذلك قادري أحمد حيدرـ في كتابه (المثقفون وحركة الأحرار الدستوريين ـ عبد الله علي الحكيمي نموذجا).
 
 
ومن أبرز الأصوات التي عبّرت عن تلك المرحلة الشيخ الثائر حسن الدعيس الفلاح الفيلسوف، الذي حضر في معترك المركز، بوعيه الجدلي المختلف والمؤثر، وهو الآتي من أحد جبال اليمن الأوسط (بعدان)، وخلال فترة فصيرة استقطب العشرات من المثقفين الملولين من حكم الأمام، والذين أصبحوا المشغِّل الفاعل في نواة المعارضة السياسية التي بدأت تتحسس طريقها الشاق من مجالس القات وحلقات المساجد، متخذة من الخطاب الديني، وموضوعاته الإشكالية مدخلاً لنقد الإمام وسلطة حكمه.
 
 
قبل هذه الفترة بقليل، كان المحامي محمد علي لقمان في مدينة عدن يقارب سؤال النهضة والتنوير، بإصدارة كتاب (بماذا تقدم الغرب !؟) في العام 1933، والكتاب في توجهه العام خاض في سؤال النهضة والتنوير الذي ظل يشغل الحيز الأكبر من تفكير النهضويين العرب، وعُدَّ هذا الكتاب تمثيلاً واضحاً للتوجهات التنويرية التي استوعبتها مدينة عدن التي شهدت في العام 1925ولادة أول ناد أدبي - ترأسه لقمان نفسه-، وصولاً إلى تشكيل الأحزاب والنقابات فيها بعيد الحرب العالمية الثانية. ولقمان " هو المفكر السياسي والفيلسوف الاجتماعي وهو المناضل الجسور والثائر الصبور، وهو التربوي العملي والصحافي الناجح، وهو الناشر الذكي والمحامي المقتدر، وهو الشاعر الجميل والقاص المبدع والروائي الرائد" كما يرد عند د أحمد علي الهمداني في كتابه ـ محمد علي لقمان المحامي رائد حركة التنوير في اليمن.
 
 
في العام 1937 أصدر الطالب الأزهري أحمد محمد نعمان كتاب (الأنَّة الأولى)، الذي عُد أول مطبوعة في أدبيات الأحرار اليمنيين، متميزة على مستوى مرحلتها الوطنية (التنويرية) كما يقول عبد الودود سيف، وقدّم فيها رؤية مبكرة حول بعض جوانب التاريخ الاجتماعي لليمن و "شرحاً لأسباب الهجرة وإشكال اضطهاد الرعية باستخدام الإمامة أساليب (الخطاط) و(التنافيذ) و(التخمين) في تحصيل الضرائب" كما يقول د أحمد القصير في كتابه (إصلاحيون وماركسيون)، التي جعلت المئات من الفلاحين من (اليمن الأوسط) يفضلون الهجرة إلى عدن وساحل إفريقيا الشرقي، وموانئ ومدن بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة، هرباً من هذا التعسف.
 
 
هذا الطالب الذي سيتحول بعد سبعة أعوام، إلى قائد في حركة الأحرار الذي تشكلت في عدن في العام 1944، بعد أن أظهر نبوغاً قيادياً ومركزياً مبكراً في حركة الأحرار لدعم القضية الفلسطينية في أواخر الثلاثينيات. كما يشير إلى ذلك حسن شكري ـ مركزية النعمان القيادية للأحرار في دعم فلسطين، وكان أكثرهم إيماناً بالعلم كمدخل للتحول، لأنه رأى خلال رحلة تعلمه التي ابتدأها في العشرينيات في مدينة زبيد، وأتمها في الأزهر أواخر الثلاثينيات، أنه لا مناص أمام هذا الشعب للخروج من بؤسه وشقائه إلا بالعلم، وقد قضى النعمان سنوات كثيرة في تعليم الآخرين ابتداء من عمله في مدرسة ذبحان (الأهلية)، حيث عاش الصدمة المعرفية الأولى حين لم يقبل في بداية الأمر بطرائق التعليم الحديثة وموادها ،التي كان يقدمها الأستاذ محمد أحمد حيدرة في ذات المدرسة وعدّها خروجاً عن الدين فدخل معه في منازعات وصلت إلى أمير تعز، قبل أن يتحول إلى أشد المدافعين عن حيدرة، وأساليبه التربوية والتعليمية.
 
 
وحين قرّبه الإمام أحمد (حين كان ولياً للعهد)، أوكل إليه تدريس ابنه البدر، وإدارة المعارف، وفي حجة -حيث كان مسجوناً بعد فشل ثورة 1948- افتتح المدرسة (المتوسطة) لتعليم الأطفال، وفي ندائه للشعب اليمني (شمالاً وجنوباً) لدعم كلية بلقيس التي افتتحت في العام 1961 في الشيخ عثمان بعدن قال "لابد أن تعد مجموعة من الشباب نفسها لتحمل مهمات التعليم بعقلية متفتحة تعي جيداً أحوال شعبها وتدرك المهالك التي طرح فيها بالمواطنين، كما يقول القصير أيضاً، لهذا عُد النعمان مثقفاً عضوياً "اتخذ التعليم مدخلا للإصلاح السياسي ورأي أن تنوير العقول هو أساس تطوير المجتمع والإنسان "كما يقول هشام علي بن علي في كتاب (المثقفون اليمنيون والنهضة)، وقد كانت مقالاته الصحافية في توجهها العام "تدعو إلى العلم والتعلم لكي تقوي في الإنسان البنية الثقافية "كما يذهب إلى ذلك الأستاذ عبدالله البردوني.

لماذا يشوهون عدن الجميلة؟!
الأحد, 10 ديسمبر, 2023
الجبايات بموازين حسَّاسة!
الأحد, 26 نوفمبر, 2023